الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*3* الشرح: قوله: (باب الصدقة قبل الرد) قال الزين بن المنير ما ملخصه: مقصوده بهذه الترجمة الحث على التحذير من التسويف بالصدقة، لما في المسارعة إليها من تحصيل النمو المذكور. قيل لأن التسويف بها قد يكون ذريعة إلى عدم القابل لها إذ لا يتم مقصود الصدقة إلا بمصادفة المحتاج إليها، وقد أخبر الصادق أنه سيقع فقد الفقراء المحتاجين إلى الصدقة بأن يخرج الغني صدقته فلا يجد من يقبلها. فإن قيل إن من أخرج صدقته مثاب على نيته ولو لم يجد من يقبلها، فالجواب أن الواجد يثاب ثواب المجازاة والفضل، والناوي يثاب ثواب الفضل فقط والأول أربح والله أعلم. ثم ذكر المصنف في الباب أربعة أحاديث في كل منها الإنذار بوقوع فقدان من يقبل الصدقة. الحديث: حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ تَصَدَّقُوا فَإِنَّهُ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يَمْشِي الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ فَلَا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا يَقُولُ الرَّجُلُ لَوْ جِئْتَ بِهَا بِالْأَمْسِ لَقَبِلْتُهَا فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلَا حَاجَةَ لِي بِهَا الشرح: حارثة بن وهب هو الخزاعي. قوله: (فإنه يأتي عليكم زمان) سيأتي بعد سبعة أبواب - من وجه آخر - بلفظ " فسيأتي". قوله: (يقول الرجل) أي الذي يريد المتصدق أن يعطيه إياها. قوله: (فأما اليوم فلا حاجة لي بها) في رواية الكشميهني " فيها"، والظاهر أن ذلك يقع في زمن كثرة المال وفيضه قرب الساعة كما قال ابن بطال، ومن ثم أورده المصنف في كتاب الفتن كما سيأتي. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمْ الْمَالُ فَيَفِيضَ حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ الْمَالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ وَحَتَّى يَعْرِضَهُ فَيَقُولَ الَّذِي يَعْرِضُهُ عَلَيْهِ لَا أَرَبَ لِي الشرح: حديث أبي هريرة ثاني حديثي الباب، وقد ساقه في الفتن بالإسناد المذكور هنا مطولا، ويأتي الكلام عليه مستوفى هناك إن شاء الله تعالى. وقوله: (حتى يهم) بفتح أوله وضم الهاء، و (رب المال) منصوب على المفعولية وفاعله قوله: (من يقبله) يقال همه الشيء أحزنه. ويروى بضم أوله يقال أهمه الأمر أقلقه. وقال النووي في شرح مسلم: ضبطوه بوجهين أشهرهما بضم أوله وكسر الهاء ورب المال مفعول والفاعل من يقبل أي يحزنه، والثاني بفتح أوله وضم الهاء ورب المال فاعل ومن مفعول أي يقصد. والله أعلم. قوله: (لا أرب لي) زاد في الفتن " به " أي لا حاجة لي به لاستغنائي عنه. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ أَخْبَرَنَا سَعْدَانُ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو مُجَاهِدٍ حَدَّثَنَا مُحِلُّ بْنُ خَلِيفَةَ الطَّائِيُّ قَالَ سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَهُ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا يَشْكُو الْعَيْلَةَ وَالْآخَرُ يَشْكُو قَطْعَ السَّبِيلِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا قَطْعُ السَّبِيلِ فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَيْكَ إِلَّا قَلِيلٌ حَتَّى تَخْرُجَ الْعِيرُ إِلَى مَكَّةَ بِغَيْرِ خَفِيرٍ وَأَمَّا الْعَيْلَةُ فَإِنَّ السَّاعَةَ لَا تَقُومُ حَتَّى يَطُوفَ أَحَدُكُمْ بِصَدَقَتِهِ لَا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا مِنْهُ ثُمَّ لَيَقِفَنَّ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابٌ وَلَا تَرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ ثُمَّ لَيَقُولَنَّ لَهُ أَلَمْ أُوتِكَ مَالًا فَلَيَقُولَنَّ بَلَى ثُمَّ لَيَقُولَنَّ أَلَمْ أُرْسِلْ إِلَيْكَ رَسُولًا فَلَيَقُولَنَّ بَلَى فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ ثُمَّ يَنْظُرُ عَنْ شِمَالِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ فَلْيَتَّقِيَنَّ أَحَدُكُمْ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ الشرح: حديث عدي بن حاتم، وقد أورده المصنف بأتم من هذا السياق، ويأتي الكلام عليه مستوفى. وشاهده هنا قوله فيه (فإن الساعة لا تقوم حتى يطوف أحدكم بصدقته لا يجد من يقبلها منه) وهو موافق لحديث أبي هريرة الذي قبله ومشعر بأن ذلك يكون في آخر الزمان. وحديث أبي موسى الآتي بعده مشعر بذلك أيضا، وقد أشار عدي بن حاتم - كما سيأتي في علامات النبوة - إلى أن ذلك لم يقع في زمانه وكانت وفاته في خلافة معاوية بعد استقرار أمر الفتوح، فانتفى قول من زعم أن ذلك وقع في ذلك الزمان. قال ابن التين: إنما يقع ذلك بعد نزول عيسى حين تخرج الأرض بركاتها حتى تشبع الرمانة أهل البيت ولا يبقى في الأرض كافر. ويأتي الكلام على اتقاء النار ولو بشق تمرة في الباب الذي يليه. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَطُوفُ الرَّجُلُ فِيهِ بِالصَّدَقَةِ مِنْ الذَّهَبِ ثُمَّ لَا يَجِدُ أَحَدًا يَأْخُذُهَا مِنْهُ وَيُرَى الرَّجُلُ الْوَاحِدُ يَتْبَعُهُ أَرْبَعُونَ امْرَأَةً يَلُذْنَ بِهِ مِنْ قِلَّةِ الرِّجَالِ وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ الشرح: قوله: (من الذهب) خصه بالذكر مبالغة في عدم من يقبل الصدقة، وكذا قوله يطوف ثم لا يجد من يقبلها وقوله: (ويرى الرجل إلخ) تقدم الكلام عليه مستوفى في " باب رفع العلم " من كتاب العلم. *3* وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ الْآيَةَ وَإِلَى قَوْلِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ الشرح: قوله: (باب اتقوا النار ولو بشق تمرة، والقليل من الصدقة، ومثل الذين ينفقون أموالهم - إلى قوله - فيها من كل الثمرات) قال الزين بن المنير وغيره: جمع المصنف بين لفظ الخبر والآية لاشتمال ذلك كله على الحث على الصدقة قليلها وكثيرها، فإن قوله تعالى (أموالهم) يشمل قليل النفقة وكثيرها، ويشهد له قوله " لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس"، فإنه يتناول القليل والكثير، إذ لا قائل بحل القليل دون الكثير. وقوله "اتقوا النار ولو بشق تمرة " يتناول الكثير والقليل أيضا، والآية أيضا مشتملة على قليل الصدقة وغيرها من جهة التمثيل المذكور فيها بالطل والوابل، فشبهت الصدقة بالقليل بإصابة الطل والصدقة بالكثير بإصابة الوابل. وأما ذكر القليل من الصدقة بعد ذكر شق التمرة فهو من عطف العام على الخاص، ولهذا أورد في الباب حديث أبي مسعود الذي كان سببا لنزول قوله تعالى وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: تقدير الآية مثل تضعيف أجور الذين ينفقون كمثل تضعيف ثمار الجنة بالمطر، إن قليلا فقليل، وإن كثيرا فكثير. وكأن البخاري أتبع الآية الأولى التي ضربت مثلا بالربوة بالآية الثانية التي تضمنت ضرب المثل لمن عمل عملا يفقده أحوج ما كان إليه للإشارة إلى اجتناب الرياء في الصدقة، ولأن قوله تعالى ثم ذكر المصنف في الباب ثلاثة أحاديث. الحديث: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ الْحَكَمُ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الصَّدَقَةِ كُنَّا نُحَامِلُ فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ فَقَالُوا مُرَائِي وَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ فَقَالُوا إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَاعِ هَذَا فَنَزَلَتْ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ الْآيَةَ الشرح: حديث أبي مسعود ورد من وجهين تاما ومختصرا. قوله: (عن سليمان) هو الأعمش، وأبو مسعود هو الأنصاري البدري. قوله: (لما نزلت آية الصدقة) كأنه يشير إلى قوله تعالى قوله: (كنا نحامل) أي نحمل على ظهورنا بالأجرة، يقال حاملت بمعنى حملت كسافرت. وقال الخطابي: يريد نتكلف الحمل بالأجرة لنكتسب ما نتصدق به، ويؤيده قوله في الرواية الثانية التي بعد هذه حيث قال " انطلق أحدنا إلى السوق فيحامل " أي يطلب الحمل بالأجرة. قوله: (فجاء رجل فتصدق بشيء كثير) هو عبد الرحمن بن عوف كما سيأتي في التفسير، والشيء المذكور كان ثمانية آلاف أو أربعة آلاف. قوله: (وجاء رجل) هو أبو عقيل بفتح العين كما سيأتي في التفسير، ونذكر هناك إن شاء الله تعالى الاختلاف في اسمه واسم أبيه ومن وقع له ذلك أيضا من الصحابة كأبي خيثمة، وأن الصاع إنما حصل لأبي عقيل لكونه أجر نفسه على النزح من البئر بالحبل. قوله: (فقالوا) سمي من اللامزين في " مغازي الواقدي " معتب بن قشير وعبد الرحمن بن نبتل بنون ومثناة مفتوحتين بينهما موحدة ساكنة ثم لام. قوله: (يلمزون) أي يعيبون، وشاهد الترجمة قوله: الحديث: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ انْطَلَقَ أَحَدُنَا إِلَى السُّوقِ فَيُحَامِلُ فَيُصِيبُ الْمُدَّ وَإِنَّ لِبَعْضِهِمْ الْيَوْمَ لَمِائَةَ أَلْفٍ الشرح: قوله: (سعيد بن يحيى) أي ابن سعيد الأموي. قوله: (فيحامل) بضم التحتانية واللام مضمومة بلفظ المضارع من المفاعلة. ويروي بفتح المثناة وفتح اللام أيضا، ويؤيده قوله في رواية زائدة الآتية في التفسير " فيحتال أحدنا حتى يجيء بالمد". قوله: (فيصيب المد) أي في مقابلة أجرته فيتصدق به. قوله: (وإن لبعضهم اليوم لمائة ألف) زاد في التفسير " كأنه يعرض بنفسه " وأشار بذلك إلى ما كانوا عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من قلة الشيء، وإلى ما صاروا إليه بعده من التوسع لكثرة الفتوح، ومع ذلك فكانوا في العهد الأول يتصدقون بما يجدون ولو جهدوا، والذين أشار إليهم آخرا بخلاف ذلك. (تنبيه) : وقع بخط مغلطاي في شرحه " وإن لبعضهم اليوم ثمانية آلاف " وهو تصحيف. الحديث: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَعْقِلٍ قَالَ سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ الشرح: عدي بن حاتم وهو بلفظ الترجمة، وهو طرف من حديثه المذكور في الباب الذي قبله، و " بشق " بكسر المعجمة نصفها أو جانبها، أي ولو كان الاتقاء بالتصدق بشق تمرة واحدة فإنه يفيد. وفي الطبراني من حديث فضالة بن عبيد مرفوعا " اجعلوا بينكم وبين النار حجابا ولو بشق تمرة " ولأحمد من حديث ابن مسعود مرفوعا بإسناد صحيح " ليتق أحدكم وجهه النار ولو بشق تمرة"، وله من حديث عائشة بإسناد حسن " يا عائشة، استتري من النار ولو بشق تمرة، فإنها تسد من الجائع مسدها من الشبعان"، ولأبي يعلى من حديث أبي بكر الصديق نحوه وأتم منه بلفظ " تقع من الجائع موقعها من الشبعان " وكأن الجامع بينهما في ذلك حلاوتها. وفي الحديث الحث على الصدقة بما قل وما جل، وأن لا يحتقر ما يتصدق به، وأن اليسير من الصدقة يستر المتصدق من النار. الحديث: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ دَخَلَتْ امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا تَسْأَلُ فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْنَا فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ مَنْ ابْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنْ النَّارِ الشرح: حديث عائشة، وسيأتي في الأدب من وجه آخر عن الزهري بسنده، وفيه التقييد بالإحسان ولفظه " من ابتلي من البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترا من النار " وسيأتي الكلام عليه مستوفى هناك إن شاء الله تعالى. ومناسبته للترجمة من جهة أن الأم المذكورة لما قسمت التمرة بين ابنتيها صار لكل واحدة منهما شق تمرة، وقد دخلت في عموم خبر الصادق أنها ممن ستر من النار لأنها ممن ابتلي بشيء من البنات فأحسن. ومناسبة فعل عائشة للترجمة من قوله " والقليل من الصدقة " وللآية من قوله: *3* لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعَ فِيهِ وَلَا خُلَّةَ إِلَى الظَّالِمُونَ وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِلَى آخِرِهِ الشرح: قوله: (باب فضل صدقة الشحيح الصحيح) كذا لأبي ذر، ولغيره " أي الصدقة أفضل، وصدقة الشحيح الصحيح، لقوله تعالى: قال الزين بن المنير ما ملخصه: مناسبة الآية للترجمة أن معنى الآية التحذير من التسويف بالإنفاق استبعادا لحلول الأجل واشتغالا بطول الأمل، والترغيب في المبادرة بالصدقة قبل هجوم المنية وفوات الأمنية. والمراد بالصحة في الحديث من لم يدخل في مرض مخوف فيتصدق عند انقطاع أمله من الحياة كما أشار إليه في آخره بقوله " ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم"، ولما كانت مجاهدة النفس على إخراج المال مع قيام مانع الشح دالا على صحة القصد وقوة الرغبة في القربة كان ذلك أفضل من غيره، وليس المراد أن نفس الشح هو السبب في هذه الأفضلية. والله أعلم. (تنبيه) : وقع في رواية غير أبي ذر تقديم آية المنافقين على آية البقرة. وفي رواية أبي ذر بالعكس. الحديث: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا قَالَ أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى وَلَا تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ الشرح: قوله: (حدثنا عبد الواحد) هو ابن زياد. قوله: (جاء رجل) لم أقف على تسميته، ويحتمل أن يكون أبا ذر، ففي مسند أحمد عنه أنه سأل أي الصدقة أفضل، لكن في الجواب " جهد من مقل أوسر إلى فقير " وكذا روى الطبراني من حديث أبي أمامة أن أبا ذر سأل فأجيب. قوله: (أي الصدقة أعظم أجرا) في الوصايا من وجه آخر عن عمارة بن القعقاع " أي الصدقة أفضل". قوله: (أن تصدق) بتشديد الصاد وأصله تتصدق فأدغمت إحدى التاءين. قوله: (وأنت صحيح شحيح) في الوصايا " وأنت صحيح حريص " قال صاحب المنتهى: الشح بخل مع حرص. وقال صاحب المحكم: الشح مثلث الشين والضم أعلى. وقال صاحب الجامع: كأن الفتح في المصدر والضم في الاسم. وقال الخطابي: فيه أن المرض يقصر يد المالك عن بعض ملكه، وأن سخاوته بالمال في مرضه لا تمحو عنه سيمة البخل، فلذلك شرط صحة البدن في الشح بالمال لأنه في الحالتين يجد للمال وقعا في قلبه لما يأمله من البقاء فيحذر معه الفقر، وأحد الأمرين للموصي والثالث للوارث لأنه إذا شاء أبطله. قال الكرماني: ويحتمل أن يكون الثالث للموصي أيضا لخروجه عن الاستقلال بالتصرف فيما يشاء فلذلك نقص ثوابه عن حال الصحة. قال ابن بطال وغيره: لما كان الشح غالبا في الصحة فالسماح فيه بالصدقة أصدق في النية وأعظم للأجر، بخلاف من يئس من الحياة ورأى مصير المال لغيره. قوله: (وتأمل) بضم الميم أي تطمع. قوله: (إذا بلغت) أي الروح، والمراد قاربت بلوغه إذ لو بلغته حقيقة لم يصح شيء من تصرفاته. ولم يجر للروح ذكر اغتناء بدلالة السياق. والحلقوم مجرى النفس قاله أبو عبيدة، وقد تقدم في أواخر كتاب العلم، وسيأتي بقية الكلام على هذا الحديث في كتاب الوصايا إن شاء الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ فِرَاسٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ بَعْضَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْنَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّنَا أَسْرَعُ بِكَ لُحُوقًا قَالَ أَطْوَلُكُنَّ يَدًا فَأَخَذُوا قَصَبَةً يَذْرَعُونَهَا فَكَانَتْ سَوْدَةُ أَطْوَلَهُنَّ يَدًا فَعَلِمْنَا بَعْدُ أَنَّمَا كَانَتْ طُولَ يَدِهَا الصَّدَقَةُ وَكَانَتْ أَسْرَعَنَا لُحُوقًا بِهِ وَكَانَتْ تُحِبُّ الصَّدَقَةَ الشرح: قوله: (باب) كذا للأكثر وبه جزم الإسماعيلي، وسقط لأبي ذر، فعلى روايته هو من ترجمة فضل صدقة الصحيح، وعلى رواية غيره فهو بمنزلة الفصل منه وأورد فيه المصنف قصة سؤال أزواج النبي صلى الله عليه وسلم منه أيتهن أسرع لحوقا به، وفيه قوله لهن " أطولكن يدا " الحديث. ووجه تعلقه بما قبله أن هذا الحديث تضمن أن الإيثار والاستكثار من الصدقة في زمن القدرة على العمل سبب للحاق بالنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك الغاية في الفضيلة، أشار إلى هذا الزين بن المنير قال ابن رشيد: وجه المناسبة أنه تبين في الحديث أن المراد بطول اليد المقتضي للحاق به الطول، وذلك إنما يتأتى للصحيح لأنه إنما يحصل بالمداومة في حال الصحة وبذلك يتم المراد. والله أعلم. قوله: (أن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم) لم أقف على تعيين السائلة منهن عن ذلك، إلا عند ابن حبان من طريق يحيى بن حماد عن أبي عوانة بهذا الإسناد " قالت فقلت " بالمثناة، وقد أخرجه النسائي من هذا الوجه بلفظ " فقلن " بالنون فالله أعلم. قوله: (أسرع بك لحوقا) منصوب على التمييز، وكذا قوله يدا، وأطولكن مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف. قوله: (فأخذوا قصبة يذرعونها) أي يقدرونها بذراع كل واحدة منهن، وإنما ذكره بلفظ جمع المذكر بالنظر إلى لفظ الجمع لا بلفظ جماعة النساء، وقد قيل في قول الشاعر وإن شئت حرمت النساء سواكم أنه ذكره بلفظ جمع المذكر تعظيما. وقوله "أطولكن " يناسب ذلك، وإلا لقال طولاكن. قوله: (فكانت سودة) زاد ابن سعد عن عفان عن أبي عوانة بهذا الإسناد " بنت زمعة بن قيس". قوله: (أطولهن يدا) في رواية عفان " ذراعا " وهي تعين أنهن فهمن من لفظ اليد الجارحة. قوله: (فعلمنا بعد) أي لما ماتت أول نسائه به لحوقا. قوله: (إنما) بالفتح، والصدقة بالرفع، وطوله يدها بالنصب لأنه الخبر. قوله: (وكانت أسرعنا) كذا وقع في الصحيح بغير تعيين، ووقع في " التاريخ الصغير " للمصنف عن موسى بن إسماعيل بهذا الإسناد " فكانت سودة أسرعنا إلخ " وكذا أخرجه البيهقي في " الدلائل " وابن حبان في صحيحه من طريق العباس الدوري عن موسى، وكذا في رواية عفان عند أحمد وابن سعد عنه " قال ابن سعد: قال لنا محمد بن عمر - يعني الواقدي - هذا الحديث وهل في سودة، وإنما هو في زينب بنت جحش، فهي أول نسائه به لحوقا وتوفيت في خلافة عمر وبقيت سودة إلى أن توفيت في خلافة معاوية في شوال سنة أربع وخمسين " قال ابن بطال: هذا الحديث سقط منه ذكر زينب لاتفاق أهل السير على أن زينب أول من مات من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يعني أن الصواب: وكانت زينب أسرعنا إلخ، ولكن يعكر على هذا التأويل تلك الروايات المتقدمة المصرح فيها بأن الضمير لسودة. وقرأت بخط الحافظ أبي علي الصدفي: ظاهر هذا اللفظ أن سودة كانت أسرع وهو خلاف المعروف عند أهل العلم أن زينب أول من مات من الأزواج، ثم نقله عن مالك من روايته عن الواقدي، قال: ويقويه رواية عائشة بنت طلحة. وقال ابن الجوزي. هذا الحديث غلط من بعض الرواة، والعجب من البخاري كيف لم ينبه عليه ولا أصحاب التعاليق ولا علم بفساد ذلك الخطابي فإنه فسره وقال: لحوق سودة به من أعلام النبوة. وكل ذلك وهم، وإنما هي زينب، فإنها كانت أطولهن يدا بالعطاء كما رواه مسلم من طريق عائشة بنت طلحة عن عائشة بلفظ " فكانت أطولنا يدا زينب لأنها كانت تعمل وتتصدق " انتهى. وتلقى مغلطاي كلام ابن الجوزي فجزم به ولم ينسبه له. وقد جمع بعضهم بين الروايتين فقال الطيبي: يمكن أن يقال فيما رواه البخاري المراد الحاضرات من أزواجه دون زينب، وكانت سودة أولهن موتا. قلت: وقد وقع نحوه في كلام مغلطاي، لكن يعكر على هذا أن في رواية يحيى بن حماد عند ابن حبان أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم اجتمعن عنده لم تغادر منهن واحدة، ثم هو مع ذلك إنما يتأتى على أحد القولين في وفاة سودة، فقد روى البخاري في تاريخه بإسناد صحيح إلى سعيد بن هلال أنه قال: ماتت سودة في خلافة عمر، وجزم الذهبي في " التاريخ الكبير " بأنها ماتت في آخر خلافة عمر. وقال ابن سيد الناس: أنه المشهور. وهذا يخالف ما أطلقه الشيخ محيي الدين حيث قال: أجمع أهل السير على أن زينب أول من مات من أزواجه. وسبقه إلى نقل الاتفاق ابن بطال كما تقدم. ويمكن الجواب بأن النقل مقيد بأهل السير، فلا يرد نقل قول من خالفهم من أهل النقل ممن لا يدخل في زمرة أهل السير. وأما على قول الواقدي الذي تقدم فلا يصح. وقد تقدم عن ابن بطال أن الضمير في قوله " فكانت " لزينب وذكرت ما يعكر عليه، لكن يمكن أن يكون تفسيره بسودة من بعض الرواة لكون غيرها لم يتقدم له ذكر، فلما لم يطلع على قصة زينب وكونها أول الأزواج لحوقا به جعل الضمائر كلها لسودة، وهذا عندي من أبي عوانة، فقد خالفه في ذلك ابن عيينة عن فراس كما قرأت بخط ابن رشيد أنه قرأه بخط أبي القاسم بن الورد، ولم أقف إلى الآن على رواية ابن عيينة هذه، لكن روى يونس بن بكير في " زيادات المغازي " والبيهقي في " الدلائل " بإسناده عنه عن زكريا بن أبي زائدة عن الشعبي التصريح بأن ذلك لزينب، لكن قصر زكريا في إسناده فلم يذكر مسروقا ولا عائشة، ولفظه " قلن النسوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أينا أسرع بك لحوقا؟ قال: أطولكن يدا، فأخذن يتذارعن أيتهن أطول يدا، فلما توفيت زينب علمن أنها كانت أطولهن يدا في الخير والصدقة " ويؤيده أيضا ما روى الحاكم في المناقب من مستدركه من طريق يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة قالت " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه: أسرعكن لحوقا بي أطولكن يدا قالت عائشة: فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم نمد أيدينا في الجدار نتطاول، فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش - وكانت امرأة قصيرة ولم تكن أطولنا - فعرفنا حينئذ أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد بطول اليد الصدقة، وكانت زينب امرأة صناعة باليد، وكانت تدبغ وتخرز وتصدق في سبيل الله " قال الحاكم على شرط مسلم انتهى. وهي رواية مفسرة مبينة مرجحة لرواية عائشة بنت طلحة في أمر زينب، قال ابن رشيد: والدليل على أن عائشة لا تعني سودة قولها " فعلمنا بعد " إذ قد أخبرت عن سودة بالطول الحقيقي ولم تذكر سبب الرجوع عن الحقيقة إلى المجاز إلا الموت، فإذا طلب السامع سبب العدول لم يجد إلا الإضمار مع أنه يصلح أن يكون المعنى فعلمنا بعد أن المخبر عنها إنما هي الموصوفة بالصدقة لموتها قبل الباقيات، فينظر السامع ويبحث فلا يجد إلا زينب، فيتعين الحمل عليه، وهو من باب إضمار ما لا يصلح غيره كقوله تعالى وكذلك بقية الضمائر بعد قوله " فكانت " واستغنى عن تسميتها لشهرتها بذلك انتهى. وقال الكرماني: يحتمل أن يقال إن في الحديث اختصارا أو اكتفاء بشهرة القصة لزينب، ويؤول الكلام بأن الضمير رجع إلى المرأة التي علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها أول من يلحق به، وكانت كثيرة الصدقة. قلت: الأول هو المعتمد، وكأن هذا هو السر في كون البخاري حذف لفظ سودة من سياق الحديث لما أخرجه في الصحيح لعلمه بالوهم فيه، وأنه لما ساقه في التاريخ بإثبات ذكرها ذكر ما يرد عليه من طريق الشعبي أيضا عن عبد الرحمن بن أبزي قال " صليت مع عمر على أم المؤمنين زينب بنت جحش، وكانت أول نساء النبي صلى الله عليه وسلم لحوقا به " وقد تقدم الكلام على تاريخ وفاتها في كتاب الجنائز، وأنه سنة عشرين. وروى ابن سعد من طريق برزة بنت رافع قالت " لما خرج العطاء أرسل عمر إلى زينب بنت جحش بالذي لها، فتعجبت وسترته بثوب وأمرت بتفرقته، إلى أن كشف الثوب فوجدت تحته خمسة وثمانين درهما ثم قالت: اللهم لا يدركني عطاء لعمر بعد عامي هذا، فماتت فكانت أول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لحوقا به " وروى ابن أبي خيثمة من طريق القاسم بن معن قال: كانت زينب أول نساء النبي صلى الله عليه وسلم لحوقا به فهذه روايات يعضد بعضها بعضا ويحصل من مجموعها أن في رواية أبي عوانة وهما. وقد ساقه يحيى بن حماد عنه مختصرا ولفظه " فأخذن قصبة يتذارعنها، فماتت سودة بنت زمعة وكانت كثيرة الصدقة فعلمنا أنه قال أطولكن بدا بالصدقة " هذا لفظه عند ابن حبان من طريق الحسن بن مدرك عنه، ولفظه عند النسائي عن أبي داود وهو الحراني عنه " فأخذن قصبة فجعلن يذرعنها فكانت سودة أسرعهن به لحوقا، وكانت أطولهن يدا، وكأن ذلك من كثرة الصدقة". وهذا السياق لا يحتمل التأويل، إلا أنه محمول على ما تقدم ذكره من دخول الوهم على الراوي في التسمية خاصة والله أعلم. وفي الحديث علم من أعلام النبوة ظاهر، وفيه جواز إطلاق اللفظ المشترك بين الحقيقة والمجاز بغير قرينة وهو لفظ " أطولكن " إذا لم يكن محذور. قال الزين بن المنير: لما كان السؤال عن آجال مقدرة لا تعلم إلا بالوحي أجابهن بلفظ غير صريح وأحالهن على ما لا يتبين إلا بآخر. وساغ ذلك لكونه ليس من الأحكام التكليفية. وفيه أن من حمل الكلام على ظاهره وحقيقته لم يلم وإن كان مراد المتكلم مجازه، لأن نسوة النبي صلى الله عليه وسلم حملن طول اليد على الحقيقة فلم ينكر عليهن. وأما ما رواه الطبراني في الأوسط من طريق يزيد بن الأصم عن ميمونة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهن: ليس ذلك أعني إنما أعني أصنعكن يدا، فهو ضعيف جدا، ولو كان ثابتا لم يحتجن بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذرع أيديهن كما تقدم في رواية عمرة عن عائشة. وقال المهلب: في الحديث دلالة على أن الحكم للمعاني لا للألفاظ لأن النسوة فهمن من طول اليد الجارحة، وإنما المراد بالطول كثرة الصدقة، وما قاله لا يمكن إطراده في جميع الأحوال. والله أعلم. *3* وَقَوْلِهِ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الشرح: قوله: (باب صدقة العلانية) ، وقوله عز وجل (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية - إلى قوله - ولا هم يحزنون) . سقطت هذه الترجمة للمستملي وثبتت للباقين، وبه جزم الإسماعيلي، ولم يثبت فيها لمن ثبتها حديث، وكأنه أشار إلى أنه لم يصح فيها شيء على شرطه وقد اختلف في سبب نزول الآية المذكورة فعند عبد الرزاق بإسناد فيه ضعف إلى ابن عباس أنها نزلت في علي بن أبي طالب كان عنده أربعة دراهم فأنفق بالليل واحدا وبالنهار واحدا وفي السر واحدا وفي العلانية واحدا، وذكره الكلبي في تفسيره عن أبي صالح عن ابن عباس أيضا وزاد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: أما إن ذلك لك. وقيل نزلت في أصحاب الخيل الذين يربطونها في سبيل الله أخرجه ابن أبي حاتم من حديث أبي أمامة، وعن قتادة وغيره نزلت في قوم أنفقوا في سبيل الله من غير إسراف ولا تقتير ذكره الطبري وغيره. وقال الماوردي: يحتمل أن يكون في إباحة الارتفاق بالزروع والثمار لأنه يرتفق بها كل مار في ليل أو نهار في سر وعلانية وكانت أعم. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ وَقَوْلِهِ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ الْآيَةَ الشرح: قوله: (باب صدقة السر. وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه. وقوله تعالى ومناسبته ظاهرة، ويكون قد اقتصر في ترجمة صدقة السر على الحديث المعلق على الآية، وعلى ما في رواية أبي ذر فيحتاج إلى مناسبة بين ترجمة صدقة السر وحديث المتصدق، ووجهها أن الصدقة المذكورة وقعت بالليل لقوله في الحديث " فأصبحوا يتحدثون " بل وقع في صحيح مسلم التصريح بذلك لقوله فيه " لأتصدقن الليلة " كما سيأتي، فدل على أن صدقته كانت سرا إذ لو كانت بالجهر نهارا لما خفي عنه حال الغني لأنها في الغالب لا تخفى، بخلاف الزانية والسارق، ولذلك خص الغني بالترجمة دونهما. وحديث أبي هريرة المعلق طرف من حديث سيأتي بعد باب بتمامه، وقد تقدم مع الكلام عليه مستوفى في " باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة " وهو أقوى الأدلة على أفضلية إخفاء الصدقة، وأما الآية فظاهرة في تفضيل صدقة السر أيضا، ولكن ذهب الجمهور إلى أنها نزلت في صدقة التطوع، ونقل الطبري وغيره الإجماع على أن الإعلان في صدقة الفرض أفضل من الإخفاء، وصدقة التطوع على العكس من ذلك. وخالف يزيد بن أبي حبيب فقال: إن الآية نزلت في الصدقة على اليهود والنصارى، قال: فالمعنى إن تؤتوها أهل الكتابين ظاهرة فلكم فضل، وإن تؤتوها فقراءكم سرا فهو خير لكم. قال: وكان يأمر بإخفاء الصدقة مطلقا. ونقل أبو إسحاق الزجاج أن إخفاء الزكاة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان أفضل، فأما بعده فإن الظن يساء بمن أخفاها، فلهذا كان إظهار الزكاة المفروضة أفضل، قال ابن عطية: ويشبه في زماننا أن يكون الإخفاء بصدقة الفرض أفضل، فقد كثر المانع لها وصار إخراجها عرضة للرياء. انتهى. وأيضا فكان السلف يعطون زكاتهم للسعاة، وكان من أخفاها اتهم بعدم الإخراج، وأما اليوم فصار كل أحد يخرج زكاته بنفسه فصار إخفاؤها أفضل والله أعلم وقال الزين بن المنير: لو قيل إن ذلك يختلف باختلاف الأحوال لما كان بعيدا، فإذا كان الإمام مثلا جائزا ومال من وجبت عليه مخفيا فالإسرار أولى، وإن كان المتطوع ممن يقتدى به ويتبع وتنبعث الهمم على التطوع بالإنفاق وسلم قصده فالإظهار أولى. والله أعلم. *3* الشرح: قوله: (باب إذا تصدق على غني وهو لا يعلم) أي فصدقته مقبولة. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَالَ رَجُلٌ لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ فَقَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدَيْ زَانِيَةٍ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ فَقَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدَيْ غَنِيٍّ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ فَقَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى سَارِقٍ وَعَلَى زَانِيَةٍ وَعَلَى غَنِيٍّ فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ أَمَّا صَدَقَتُكَ عَلَى سَارِقٍ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعِفَّ عَنْ سَرِقَتِهِ وَأَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ عَنْ زِنَاهَا وَأَمَّا الْغَنِيُّ فَلَعَلَّهُ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ الشرح: قوله: (عن الأعرج عن أبي هريرة) في رواية مالك في " الغرائب للدارقطني " عن أبي الزناد أن عبد الرحمن بن هرمز أخبره أنه سمع أبا هريرة. قوله: (قال رجل) لم أقف على اسمه، ووقع عند أحمد من طريق ابن لهيعة عن الأعرج في هذا الحديث أنه كان من بني إسرائيل. قوله: (لأتصدقن بصدقة) في رواية أبي عوانة عن أبي أمية عن أبي اليمان بهذا الإسناد " لأتصدقن الليلة " وكرر كذلك في المواضع الثلاثة. وكذا أخرجه أحمد من طريق ورقاء ومسلم من طريق موسى بن عقبة والدارقطني في " غرائب مالك " كلهم عن أبي الزناد. وقوله "لأتصدقن " من باب الالتزام كالنذر مثلا، والقسم فيه مقدر كأنه قال: والله لأتصدقن. قوله: (فوضعها في يد سارق) أي وهو لا يعلم أنه سارق. قوله: (فأصبحوا يتحدثون: تصدق على سارق) في رواية أبي أمية " تصدق الليلة على سارق " وفي رواية ابن لهيعة " تصدق الليلة على فلان السارق " ولم أر في شيء من الطرق تسمية أحد من الثلاثة المتصدق عليهم. وقوله "تصدق " بضم أوله على البناء للمفعول. قوله: (فقال اللهم لك الحمد) أي لا لي لأن صدقتي وقعت بيد من لا يستحقها فلك الحمد حيث كان ذلك بإرادتك لا بإرادتي، فإن إرادة الله كلها جميلة. قال الطيبي: لما عزم على أن يتصدق على مستحق فوضعها بيد زانية حمد الله على أنه لم يقدر أن يتصدق على من هو أسوأ حالا منها، أو أجرى الحمد مجرى التسبيح في استعماله عند مشاهدة ما يتعجب منه تعظيما لله، فلما تعجبوا من فعله تعجب هو أيضا فقال: اللهم لك الحمد، على زانية، أي التي تصدقت عليها فهو متعلق بمحذوف انتهى. ولا يخفى بعد هذا الوجه، وأما الذي قبله فأبعد منه. والذي يظهر الأول وأنه سلم وفوض ورضي بقضاء الله فحمد الله على تلك الحال، لأنه المحمود على جميع الحال، لا يحمد على المكروه سواه، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ما لا يعجبه قال " اللهم لك الحمد على كل حال". قوله: (فأتي فقيل له) في رواية الطبراني في " مسند الشاميين " عن أحمد بن عبد الوهاب عن أبي اليمان بهذا الإسناد " فساءه ذلك فأتى في منامه " وأخرجه أبو نعيم في المستخرج عنه، وكذا الإسماعيلي من طريق علي بن عياش عن شعيب وفيه تعيين أحد الاحتمالات التي ذكرها ابن التين وغيره قال الكرماني: قوله " أتي " أي أري في المنام أو سمع هاتفا ملكا أو غيره أو أخبره نبي أو أفتاه عالم. وقال غيره: أو أتاه ملك فكلمه، فقد كانت الملائكة تكلم بعضهم في بعض الأمور. وقد ظهر بالنقل الصحيح أنها كلها لم تقع إلا النقل الأول. قوله: (أما صدقتك على سارق) زاد أبو أمية " فقد قبلت " وفي رواية موسى بن عقبة وابن لهيعة " أما صدقتك فقد قبلت " وفي رواية الطبراني " إن الله قد قبل صدقتك " وفي الحديث دلالة على أن الصدقة كانت عندهم مختصة بأهل الحاجة من أهل الخير، ولهذا تعجبوا من الصدقة على الأصناف الثلاثة. وفيه أن نية المتصدق إذا كانت صالحة قبلت صدقته ولو لم تقع الموقع. واختلف الفقهاء في الإجزاء إذا كان ذلك في زكاة الفرض، ولا دلالة في الحديث على الإجزاء ولا على المنع، ومن ثم أورد المصنف الترجمة بلفظ الاستفهام ولم يجزم بالحكم. فإن قيل إن الخبر إنما تضمن قصة خاصة وقع الاطلاع فيها على قبول الصدقة برؤيا صادقة اتفاقية فمن أين يقع تعميم الحكم؟ فالجواب أن التنصيص في هذا الخير على رجاء الاستعفاف هو الدال على تعدية الحكم، فيقتضي ارتباط القبول بهذه الأسباب. وقيه فضل صدقة السر، وفضل الإخلاص، واستحباب إعادة الصدقة إذا لم تقع الموقع، وأن الحكم للظاهر حتى يتبين سواه، وبركة التسليم والرضا، وذم التضجر بالقضاء كما قال بعض السلف. لا تقطع الخدمة ولو ظهر لك عدم القبول. *3* الشرح: قوله: (باب إذا تصدق) أي الشخص (على ابنه وهو لا يشعر) قال الزين بن المنير: لم يذكر جواب الشرط اختصارا، وتقديره جاز، لأنه يصير لعدم شعوره كالأجنبي. ومناسبة الترجمة للخبر من جهة أن يزيد أعطى من يتصدق عنه ولم يحجر عليه، وكان هو السبب في وقوع الصدقة في يد ولده قال: وعبر في هذه الترجمة بنفي الشعور وفي التي قبلها بنفي العلم لأن المتصدق في السابقة بذل وسعه في طلب إعطاء الفقير فأخطأ اجتهاده فناسب أن ينفي عنه العلم، وأما هذا فباشر التصدق غيره فناسب أن ينفى عن صاحب الصدقة الشعور. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ حَدَّثَنَا أَبُو الْجُوَيْرِيَةِ أَنَّ مَعْنَ بْنَ يَزِيدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُ قَالَ بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَأَبِي وَجَدِّي وَخَطَبَ عَلَيَّ فَأَنْكَحَنِي وَخَاصَمْتُ إِلَيْهِ وَكَانَ أَبِي يَزِيدُ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ فَجِئْتُ فَأَخَذْتُهَا فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَقَالَ وَاللَّهِ مَا إِيَّاكَ أَرَدْتُ فَخَاصَمْتُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ الشرح: قوله: (حدثنا محمد بن يوسف) هو الفريابي، وأبو الجويرية بالجيم مصغرا اسمه حطان بكسر المهملة وكان سماعه عن معن ومعن أمير على غزاة بالروم في خلافة معاوية كما رواه أبو داود من طريق أبي الجويرية. قوله: (أنا وأبي وجدي) اسم جده الأخنس بن حبيب السلمي كما جزم به ابن حبان وغير واحد، ووقع في الصحابة لمطين وتبعه البارودي والطبراني وابن منده وأبو نعيم أن اسم جد معن بن يزيد ثور فترجموا في كتبهم بثور وساقوا حديث الباب من طريق الجراح والد وكيع عن أبي الجويرية عن معن بن يزيد بن ثور السلمي أخرجه مطين عن سفيان بن وكيع عن أبيه عن جده، ورواه البارودي والطبراني عن مطين، ورواه ابن منده عن البارودي، وأبو نعيم عن الطبراني، وجمهور الرواة عن أبي الجويرية لم يسموا جد معن بل تفرد سفيان بن وكيع بذلك وهو ضعيف، وأظنه كان فيه عن معن بن يزيد أبي ثور السلمي فتصحفت أداة الكنية بابن، فإن معنا كان يكنى أبا ثور، فقد ذكر خليفة بن خياط في تاريخه أن معن بن يزيد وابنه ثورا قتلا يوم مرج راهط مع الضحاك بن قيس. وجمع ابن حبان بين القولين بوجه آخر فقال في " الصحابة ": ثور السلمي جد معن بن يزيد بن الأخنس السلمي لأمه. فإن كان ضبطه فقد زال الإشكال والله أعلم. وروي عن يزيد بن أبي حبيب أن معن بن يزيد شهد بدرا هو وأبوه وجده ولم يتابع على ذلك. فقد روى أحمد والطبراني من طريق صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن يزيد بن الأخنس السلمي أنه أسلم فأسلم معه جميع أهله إلا امرأة واحدة أبت أن تسلم فأنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وقد فرق البغوي وغيره في الصحابة بين يزيد بن الأخنس وبين يزيد والد معن، والجمهور على أنه هو. قوله: (وخطب علي فأنكحني) أي طلب لي النكاح فأجيب، يقال خطب المرأة إلى وليها إذا أرادها الخاطب لنفسه، وعلى فلان إذا أرادها لغيره، والفاعل النبي صلى الله عليه وسلم لأن مقصود الراوي بيان أنواع علاقاته به من المبايعة وغيرها. ولم أقف على اسم المخطوبة، ولو ورد أنها ولدت منه لضاهى بيت الصديق في الصحبة من جهة كونهم أربعة في نسق، وقد وقع ذلك لأسامة بن زيد بن حارثة فروى الحاكم في " المستدرك " أن حارثة قدم فأسلم، وذكر الواقدي في المغازي أن أسامة ولد له على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تتبعت نظائر لذلك أكثرها فيه مقال ذكرتها في " النكت على علوم الحديث لابن الصلاح". قوله: (وكان أبي يزيد) بالرفع على البدلية. قوله: (فوضعها عند رجل) لم أقف على اسمه، وفي السياق حذف تقديره وأذن له أن يتصدق بها على محتاج إليها إذنا مطلقا. قوله: (فجئت فأخذتها) أي من المأذون له في التصدق بها بإذنه لا بطريق الاعتداء، ووقع عند البيهقي من طريق أبي حمزة السكري عن أبي الجويرية في هذا الحديث " قلت ما كانت خصومتك؟ قال: كان رجل يغشى المسجد فيتصدق على رجال يعرفهم، فظن أني بعض من يعرف " فذكر الحديث. قوله: (فأتيته) الضمير لأبيه أي فأتيت أبي بالدنانير المذكورة. قوله: (والله ما إياك أردت) يعني لو أردت أنك تأخذها لناولتها لك ولم أوكل فيها، أو كأنه كان يرى أن الصدقة على الولد لا تجزئ، أو يرى أن الصدقة على الأجنبي أفضل. قوله: (فخاصمته) تفسير لقوله أولا " وخاصمت إليه". قوله: (لك ما نويت) أي إنك نويت أن تتصدق بها على من يحتاج إليها وابنك يحتاج إليها فوقعت الموقع، وإن كان لم يخطر ببالك أنه يأخذها. قوله: (ولك ما أخذت يا معن) أي لأنك أخذتها محتاجا إليها. قال ابن رشيد: الظاهر أنه لم يرد بقوله " والله ما إياك أردت " أي إني أخرجتك بنيتي، وإنما أطلقت لمن تجزئ عني الصدقة عليه ولم تخطر أنت ببالي، فأمضى النبي صلى الله عليه وسلم الإطلاق لأنه فوض للوكيل بلفظ مطلق فنفذ فعله. وفيه دليل على العمل بالمطلقات على إطلاقها وإن احتمل أن المطلق لو خطر بباله فرد من الأفراد لقيد اللفظ به والله أعلم. واستدل به على جواز دفع الصدقة إلى كل أصل وفرع ولو كان ممن تلزمه نفقته، 0 ولا حجة فيه لأنها واقعة حال فاحتمل أن يكون معن كان مستقلا لا يلزم أباه يزيد نفقته، وسيأتي الكلام على هذه المسألة مبسوطا في " باب الزكاة على الزوج " بعد ثلاثين بابا إن شاء الله تعالى.
وفيه جواز الافتخار بالمواهب الربانية والتحدث بنعم الله. وفيه جواز التحاكم بين الأب والابن وأن ذلك بمجرده لا يكون عقوقا. وجواز الاستخلاف في الصدقة ولا سيما صدقة التطوع لأن فيه نوع إسرار. وفيه أن للتصدق أجر ما نواه سواء صادف المستحق أو لا. وأن الأب لا رجوع له في الصدقة على ولده بخلاف الهبة. والله أعلم. *3* الشرح: قوله: (باب الصدقة باليمين) أي حكم، أو " باب " بالتنوين والتقدير أي فاضلة أو يرغب فيها. الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ إِمَامٌ عَدْلٌ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ الشرح: حديث أبي هريرة " سبعة يظلهم الله في ظله " وفي قوله " حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " وقد تقدم الكلام عليه مستوفى كما بينته قريبا. الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ الْخُزَاعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ تَصَدَّقُوا فَسَيَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يَمْشِي الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ فَيَقُولُ الرَّجُلُ لَوْ جِئْتَ بِهَا بِالْأَمْسِ لقَبِلْتُهَا مِنْكَ فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهَا الشرح: حديث حارثة بن وهب تقدم في " باب الصدقة قبل الرد " وفيه " يمشي الرجل بصدقته فيقول الرجل: لو جئت بها أمس لقبلتها منك " قال ابن رشيد: مطابقة الحديث للترجمة من جهة أنه اشترك مع الذي قبله في كون كل منهما حاملا لصدقته، لأنه إذا كان حاملا لها بنفسه كان أخفى لها، فكان في معنى " لا تعلم شماله ما تنفق يمينه". ويحمل المطلق في هذا على المقيد في هذا أي المناولة باليمين، قال: ويقوي أن ذلك مقصده إتباعه بالترجمة التي بعدها حيث قال " من أمر خادمه بالصدقة ولم يناول بنفسه " وكأنه قصد في هذا من حملها بنفسه. *3* وَقَالَ أَبُو مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ الشرح: قوله: (باب من أمر خادمه بالصدقة ولم يناول بنفسه) قال الزين بن المنير: فائدة قوله " ولم يناول نفسه " التنبيه على أن ذلك مما يغتفر، وأن قوله في الباب قبله " الصدقة باليمين " لا يلزم منه المنع من إعطائها بيد الغير وإن كانت المباشرة أولى. قوله: (وقال أبو موسى) هو الأشعري. قوله: (هو أحد المتصدقين) ضبط في جميع روايات الصحيحين بفتح القاف على التثنية، قال القرطبي: ويجوز الكسر على الجمع أي هو متصدق من المتصدقين. وهذا التعليق طرف من حديث وصله بعد ستة أبواب بلفظ " الخازن " والخازن خادم المالك في الخزن وإن لم يكن خادمه حقيقة. ثم أورد المصنف هنا حديث عائشة " إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها " الحديث. قال ابن رشيد: نبه بالترجمة على أن هذا الحديث مفسر بها، لأن كلا من الخازن والخادم والمرأة أمين ليس له أن يتصرف إلا بإذن المالك نصا أو عرفا إجمالا أو تفضيلا انتهى. وسيأتي البحث في ذلك بعد سبعة أبواب. *3* وَمَنْ تَصَدَّقَ وَهُوَ مُحْتَاجٌ أَوْ أَهْلُهُ مُحْتَاجٌ أَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَالدَّيْنُ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى مِنْ الصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ وَالْهِبَةِ وَهُوَ رَدٌّ عَلَيْهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُتْلِفَ أَمْوَالَ النَّاسِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِالصَّبْرِ فَيُؤْثِرَ عَلَى نَفْسِهِ وَلَوْ كَانَ بِهِ خَصَاصَةٌ كَفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ تَصَدَّقَ بِمَالِهِ وَكَذَلِكَ آثَرَ الْأَنْصَارُ الْمُهَاجِرِينَ وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَيِّعَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِعِلَّةِ الصَّدَقَةِ وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ قُلْتُ فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ الشرح: قوله: (باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى) أورد في الباب حديث أبي هريرة بلفظ " خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى " وهو مشعر بأن النفي في اللفظ الأول للكمال لا للحقيقة، فالحقيقة لا صدقة كاملة إلا عن ظهر غنى، وقد أورده أحمد من طريق أبي صالح بلفظ " إنما الصدقة ما كان عن ظهر غنى " وهو أقرب إلى لفظ الترجمة. وأخرجه أيضا من طريق عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن أبي هريرة بلفظ الترجمة قال " لا صدقة إلا عن ظهر غنى " الحديث. وكذا ذكره المصنف تعليقا في الوصايا، وساقه مغلطا بإسناد له إلى أبي هريرة بلفظه، وليس هو باللفظ المذكور في الكتاب الذي ساقه منه، فلا يغتر به ولا بمن تبعه على ذلك. قوله: (ومن تصدق وهو محتاج إلى آخر الترجمة) كأنه أراد تفسير الحديث المذكور بأن شرط المتصدق أن لا يكون محتاجا لنفسه أو لمن تلزمه نفقته. ويلتحق بالتصدق سائر التبرعات. وأما قوله " فهو رد عليه " فمقتضاه أن ذا الدين المستغرق لا يصح منه التبرع، لكن محل هذا عند الفقهاء إذا حجر عليه الحاكم بالفلس، وقد نقل فيه صاحب " المغني " وغيره الإجماع، فيحمل إطلاق المصنف عليه. واستدل له المصنف بالأحاديث التي علقها. وأما قوله " إلا أن يكون معروفا بالصبر " فهو من كلام المصنف، وكلام ابن التين يوهم أنه بقية الحديث فلا يغتر به، وكأن المصنف أراد أن يخص به عموم الحديث الأول. والظاهر أنه يختص بالمحتاج، ويحتمل أن يكون عاما ويكون التقدير إلا أن يكون كل من المحتاج أو من تلزمه النفقة أو صاحب الدين معروفا بالصبر. ويقوي الأول التمثيل الذي مثل به من فعل أبي بكر والأنصار، قال ابن بطال: أجمعوا على أن المديان لا يجوز له أن يتصدق بماله ويترك قضاء الدين، فتعين حمل ذلك على المحتاج. وحكى ابن رشيد عن بعضهم أنه يتصور في المديان فيما إذا عامله الغرماء على أن يأكل من المال فلو آثر بقوته وكان صبورا جاز له ذلك وإلا كان إيثاره سببا في أن يرجع لاحتياجه فيأكل فيتلف أموالهم فيمنع. وإذا تقرر ذلك فقد اشتملت الترجمة على خمسة أحاديث معلقة، وفي الباب أربعة أحاديث موصولة. فأما المعلقة فأولها قوله " وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من أخذ أموال الناس " وهو طرف من حديث لأبي هريرة موصول عنده في الاستقراض. ثانيها قوله " كفعل أبي بكر حين تصدق بماله " هذا مشهور في السير، وورد في حديث مرفوع أخرجه أبو داود وصححه الترمذي والحاكم من طريق زيد بن أسلم عن أبيه سمعت عمر يقول " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك مالا عندي فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما، فجئت بنصف مالي، وأتى أبو بكر بكل ما عنده. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله " الحديث تفرد به هشام بن سعد عن زيد، وهشام صدوق فيه مقال من جهة حفظه. قال الطبري وغيره: قال الجمهور من تصدق بماله كله في صحة بدنه وعقله حيث لا دين عليه وكان صبورا على الإضاقة ولا عيال له أو له عيال يصبرون أيضا فهو جائز، فإن فقد شيء من هذه الشروط كره. وقال بعضهم: هو مردود. وروي عن عمر حيث رد على غيلان الثقفي قسمة ماله. ويمكن أن يحتج له بقصة المدبر الآتي ذكره، فإنه صلى الله عليه وسلم باعه وأرسل ثمنه إلى الذي دبره لكونه كان محتاجا. وقال آخرون: يجوز من الثلث ويرد عليه الثلثان، وهو قول الأوزاعي ومكحول. وعن مكحول أيضا يرد ما زاد على النصف. قال الطبري: والصواب عندنا الأول من حيث الجواز، والمختار من حيث الاستحباب أن يجعل ذلك من الثلث جمعا بين قصة أبي بكر وحديث كعب والله أعلم. ثالثها قوله " وكذلك آثر الأنصار المهاجرين " هو مشهور أيضا في السير، وفيه أحاديث مرفوعة: منها حديث أنس " قدم المهاجرون المدينة وليس بأيديهم شيء، فقاسمهم الأنصار". وسيأتي موصولا في الهبة. وحديث أبي هريرة في قصة الأنصاري الذي آثر ضيفه بعشائه وعشاء أهله، وسيأتي موصولا في تفسير سورة الحشر. رابعها قوله " ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال " هو طرف من حديث المغيرة، وقد تقدم بتمامه في آخر صفة الصلاة. خامسها قوله " وقال كعب " يعني ابن مالك إلخ، وهو طرف من حديثه الطويل في قصة توبته وسيأتي بتمامه في تفسير سورة التوبة. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ الشرح: حديث أبي هريرة " خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى " فعبد الله المذكور في الإسناد هو ابن المبارك، ويونس هو ابن يزيد. ومعنى الحديث أفضل الصدقة ما وقع من غير محتاج إلى ما يتصدق به لنفسه أو لمن تلزمه نفقته. قال الخطابي: لفظ الظهر يرد في مثل هذا إشباعا للكلام، والمعنى أفضل الصدقة ما أخرجه الإنسان من ماله بعد أن يستبقي منه قدر الكفاية، ولذلك قال بعده وابدأ بمن تعول. وقال البغوي: المراد غني يستظهر به على النوائب التي تنوبه. ونحوه قولهم ركب متن السلامة. والتنكير في قوله " غنى " للتعظيم، هذا هو المعتمد في معنى الحديث. وقيل: المراد خير الصدقة ما أغنيت به من أعطيته عن المسألة، وقيل " عن " للسببية والظهر زائد، أي خير الصدقة ما كان سببها غنى في المتصدق. وقال النووي: مذهبنا أن التصدق بجميع المال مستحب لمن لا دين عليه ولا له عيال لا يصبرون، ويكون هو ممن يصبر على الإضاقة والفقر، فإن لم يجمع هذه الشروط فهو مكروه. وقال القرطبي في " المفهم ": يرد على تأويل الخطابي بالآيات والأحاديث الواردة في فضل المؤثرين على أنفسهم، ومنها حديث أبي ذر " فضل الصدقة جهد من مقل " والمختار أن معنى الحديث أفضل الصدقة ما وقع بعد القيام بحقوق النفس والعيال بحيث لا يصير المتصدق محتاجا بعد صدقته إلى أحد، فمعنى الغنى في هذا الحديث حصول ما تدفع به الحاجة الضرورية كالأكل عند الجوع المشوش الذي لا صبر عليه، وستر العورة، والحاجة إلى ما يدفع به عن نفسه الأذى، وما هذا سبيله فلا يجوز الإيثار به بل يحرم، وذلك أنه إذا آثر غيره به أدى إلى إهلاك نفسه أو الإضرار بها أو كشف عورته، فمراعاة حقه أولى على كل حال، فإذا سقطت هذه الواجبات صح الإيثار وكانت صدقته هي الأفضل لأجل ما يتحمل من مضض الفقر وشدة مشقته، فبهذا يندفع التعارض بين الأدلة إن شاء الله. قوله: (وابدأ بمن تعول) فيه تقديم نفقة نفسه وعياله لأنها منحصرة فيه بخلاف نفقة غيرهم، وسيأتي شرحه في النفقات إن شاء الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَعَنْ وُهَيْبٍ قَالَ أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الشرح: حديث حكيم بن حزام " اليد العليا خير من اليد السفلى " الحديث، وشاهد الترجمة منه قوله فيه " وخير الصدقة عن ظهر غنى " وهشام المذكور في الإسناد هو ابن عروة بن الزبير، وقوله فيه " ومن يستعف يعفه الله " يأتي الكلام عليه في حديث أبي سعيد بعد أبواب. ثالثها حديث أبي هريرة قال " بهذا " أي بحديث حكيم، أورده معطوفا على إسناد حديث حكيم بلفظ " وعن وهيب " والظاهر أنه حمله عن موسى بن إسماعيل عنه بالطريقين معا، وكأن هشاما حدث به وهيبا تارة عن أبيه عن حكيم وتارة عن أبيه عن أبي هريرة، أو حدثه به عنهما مجموعا ففرقه وهيب أو الراوي عنه. وقد وصل حديث أبي هريرة من طريق وهيب الإسماعيلي قال " أخبرني ابن ياسين حدثنا محمد بن سفيان حدثنا حبان - هو ابن هلال - حدثنا وهيب حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن أبي هريرة قال " مثل حديث حكيم. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح و حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَذَكَرَ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ وَالْمَسْأَلَةَ الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى فَالْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْمُنْفِقَةُ وَالسُّفْلَى هِيَ السَّائِلَةُ الشرح: حديث ابن عمر من وجهين في ذكر اليد العليا، وإنما أورده ليفسر به ما أجمل في حديث حكيم، قال ابن رشيد: والذي يظهر أن حديث حكيم بن حزام لما اشتمل على شيئين: حديث " اليد العليا " وحديث " لا صدقة إلا عن ظهر غنى " ذكر معه حديث ابن عمر المشتمل على الشيء الأول تكثيرا لطرقه. ويحتمل أن يكون مناسبة حديث " اليد العليا " للترجمة من جهة أن إطلاق كون اليد العليا هي المنفقة، محله ما إذا كان الإنفاق لا يمنع منه بالشرع كالمديان المحجور عليه، فعمومه مخصوص بقوله " لا صدقة إلا عن ظهر غنى " والله أعلم. (تنبيه) : لم يسق البخاري متن طريق حماد عن أيوب، وعطف عليه طريق مالك، فربما أوهم أنهما سواء، وليس كذلك لما سنذكره عن أبي داود. وقال ابن عبد البر في " التمهيد ": لم تختلف الرواة عن مالك أي في سياقه، كذا قال وفيه نظر كما سيأتي. وقال القرطبي: وقع تفسير اليد العليا والسفلى في حديث ابن عمر هذا، وهو نص يرفع الخلاف ويدفع تعسف من تعسف في تأويله ذلك انتهى. لكن ادعى أبو العباس الداني في " أطراف الموطأ " أن التفسير المذكور مدرج في الحديث، ولم يذكر مستندا لذلك. ثم وجدت في " كتاب العسكري في الصحابة " بإسناد له فيه انقطاع عن ابن عمر أنه كتب إلى بشر بن مروان " إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اليد العليا خير من اليد السفلى، ولا أحسب اليد السفلى إلا السائلة، ولا العليا إلا المعطية " فهذا يشعر بأن التفسير من كلام ابن عمر، ويؤيده ما رواه ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال " كنا نتحدث أن العليا هي المنفقة". قوله: (وذكر الصدقة والتعفف والمسألة) كذا للبخاري بالواو قبل المسألة. وفي رواية مسلم عن قتيبة عن مالك " والتعفف عن المسألة " ولأبي داود " والتعفف منها " أي من أخذ الصدقة، والمعنى أنه كان يحض الغني على الصدقة والفقير على التعفف عن المسألة أو يحضه على التعفف ويذم المسألة. قوله: (فاليد العليا هي المنفقة) قال أبو داود قال الأكثر عن حماد بن زيد: المنفقة. وقال واحد عنه: المتعففة، وكذا قال عبد الوارث عن أيوب انتهى. فأما الذي قال عن حماد المتعففة بالعين وفاءين فهو مسدد، كذلك رويناه عنه في مسنده رواية معاذ بن المثنى عنه، ومن طريقه أخرجه ابن عبد البر في " التمهيد"، وقد تابعه على ذلك أبو الربيع الزهراني كما رويناه في " كتاب الزكاة ليوسف بن يعقوب القاضي " حدثنا أبو الربيع. وأما رواية عبد الوارث فلم أقف عليها موصولة. وقد أخرجه أبو نعيم في " المستخرج " من طريق سليمان بن حرب عن حماد بلفظ " واليد العليا يد المعطي " وهذا يدل على أن من رواه عن نافع بلفظ " المتعففة " فقد صحف. قال ابن عبد البر: ورواه موسى بن عقبة عن نافع فاختلف عليه أيضا، فقال حفص بن ميسرة عنه " المنفقة " كما قال مالك. قلت: وكذلك قال فضيل بن سليمان عنه أخرجه ابن حبان من طريقه قال: ورواه إبراهيم بن طهمان عن موسى فقال " المنفقة " قال ابن عبد البر: رواية مالك أولى وأشبه بالأصول. ويؤيده حديث طارق المحاربي عند النسائي قال " قدمنا المدينة فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب الناس وهو يقول: يد المعطي العليا " انتهى. ولابن أبي شيبة والبزار من طريق ثعلبة بن زهدم مثله، وللطبراني بإسناد صحيح عن حكيم بن حزام مرفوعا " يد الله فوق يد المعطي، ويد المعطي فوق يد المعطى، ويد المعطى أسفل الأيدي " وللطبراني من حديث عدي الجذامي مرفوعا مثله، ولأبي داود وابن خزيمة من حديث أبي الأحوص عوف بن مالك عن أبيه مرفوعا " الأيدي ثلاثة: فيد الله العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى " ولأحمد والبزار من حديث عطية السعدي " اليد المعطية هي العليا، والسائلة هي السفلى " فهذه الأحاديث متضافرة على أن اليد العليا هي المنفقة المعطية وأن السفلى هي السائلة، وهذا هو المعتمد وهو قول الجمهور. وقيل اليد السفلى الآخذة سواء كان بسؤال أم بغير سؤال، وهذا أباه قوم واستندوا إلى أن الصدقة تقع في يد الله قبل يد المتصدق عليه. قال ابن العربي: التحقيق أن السفلى يد السائل، وأما يد الآخذ فلا، لأن يد الله هي المعطية ويد الله هي الآخذة وكلتاهما عليا وكلتاهما يمين انتهى. وفيه نظر لأن البحث إنما هو في أيدي الآدميين، وأما يد الله تعالى فباعتبار كونه مالك كل شيء نسبت يده إلى الإعطاء، وباعتبار قبوله للصدقة ورضاه بها نسبت يده إلى الأخذ ويده العليا على كل حال، وأما يد الآدمي فهي أربعة: يد المعطي، وقد تضافرت الأخبار بأنها عليا. ثانيها يد السائل، وقد تضافرت بأنها سفلى سواء أخذت أم لا، وهذا موافق لكيفية الإعطاء والأخذ غالبا وللمقابلة بين العلو والسفل المشتق منهما. ثالثها يد المتعفف عن الأخذ ولو بعد أن تمد إليه يد المعطي مثلا، وهذه توصف بكونها عليا علوا معنويا. رابعها يد الآخذ بغير سؤال، وهذه قد اختلف فيها فذهب جمع إلى أنها سفلى، وهذا بالنظر إلى الأمر المحسوس، وأما المعنوي فلا يطرد فقد تكون عليا في بعض الصور، وعليه يحمل كلام من أطلق كونها عليا. قال ابن حبان: اليد المتصدقة أفضل من السائلة لا الآخذة بغير سؤال، إذ محال أن تكون اليد التي أبيح لها استعمال فعل باستعماله، دون من فرض عليه إتيان شيء فأتى به أو تقرب إلى ربه متنفلا، فربما كان الآخذ لما أبيح له أفضل وأورع من الذي يعطي انتهى. وعن الحسن البصري: اليد العليا المعطية والسفلى المانعة ولم يوافق عليه. وأطلق آخرون من المتصوفة أن اليد الآخذة أفضل من المعطية مطلقا، وقد حكى ابن قتيبة في " غريب الحديث " ذلك عن قوم ثم قال: وما أرى هؤلاء إلا قوما استطابوا السؤال فهم يحتجون للدناءة، ولو جاز هذا لكان المولى من فوق هو الذي كان رقيقا فأعتق والمولى من أسفل هو السيد الذي أعتقه انتهى. وقرأت في " مطلع الفوائد " للعلامة جمال الدين بن نباتة في تأويل الحديث المذكور معنى آخر فقال: اليد هنا هي النعمة، وكأن المعنى أن العطية الجزيلة خير من العطية القليلة. قال: وهذا حث على المكارم بأوجز لفظ، ويشهد له أحد التأويلين في قوله " ما أبقت غنى " أي ما حصل به للسائل غنى عن سؤاله كمن أراد أن يتصدق بألف فلو أعطاها لمائة إنسان لم يظهر عليهم الغنى، بخلاف ما لو أعطاها لرجل واحد. قال: وهو أولى من حمل اليد على الجارحة، لأن ذلك لا يستمر إذ فيمن يأخذ من هو خير عند الله ممن يعطي. قلت: التفاضل هنا يرجع إلى الإعطاء والأخذ، ولا يلزم منه أن يكون المعطي أفضل من الآخذ على الإطلاق. وقد روى إسحاق في مسنده من طريق عمر بن عبد الله بن عروة بن الزبير " أن حكيم بن حزام قال: يا رسول الله، ما اليد العليا؟ قال: التي تعطي ولا تأخذ " فقوله " ولا تأخذ " صريح في أن الآخذة ليست بعليا والله أعلم. وكل هذه التأويلات المتعسفة تضمحل عند الأحاديث المتقدمة المصرحة بالمراد، فأولى ما فسر الحديث بالحديث، ومحصل ما في الآثار المتقدمة أن أعلى الأيدي المنفقة، ثم المتعففة عن الآخذ، ثم الآخذة بغير سؤال. وأسفل الأيدي السائلة والمانعة والله أعلم. قال ابن عبد البر: وفي الحديث إباحة الكلام للخطيب بكل ما يصلح من موعظة وعلم وقربة. وفيه الحث على الإنفاق في وجوه الطاعة. وفيه تفضيل الغنى مع القيام بحقوقه على الفقر، لأن العطاء إنما يكون مع الغنى، وقد تقدم الخلاف في ذلك في حديث " ذهب أهل الدثور " في أواخر صفة الصلاة. وفيه كراهة السؤال والتنفير عنه، ومحله إذا لم تدع إليه ضرورة من خوف هلاك ونحوه. وقد روى الطبراني من حديث ابن عمر بإسناد فيه مقال مرفوعا " ما المعطي من سعة بأفضل من الآخذ إذا كان محتاجا " وسيأتي حديث حكيم مطولا في " باب الاستعفاف عن المسألة " وفيه بيان سببه إن شاء الله تعالى.
|